بوركينا فاسو- أزمات أمنية متفاقمة، تحديات داخلية وجهود متعثرة.

شهدت بوركينا فاسو في عام 2022 وضعًا مضطربًا، حيث كانت السلطات الحكومية تسيطر على ما يقرب من 60% فقط من أراضيها، بينما كانت المساحة المتبقية خاضعة لنفوذ الحركات الإرهابية المتصاعدة. وقد تفاقم الوضع مع وقوع انقلابين عسكريين في نفس العام، وبرر قادة هذه الانقلابات تحركاتهم بالإشارة إلى التحديات الأمنية المتفاقمة، والفساد المستشري، وأوجه القصور الأخرى في الإدارة التي تعاني منها البلاد.
وفقًا لما أوردته قناة الجزيرة في يناير 2022، صرح الرئيس النيجري السابق محمدو إيسوفو، الذي كان يقوم بدور الوساطة بين المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) والحكومة العسكرية في بوركينا فاسو بعد الانقلاب الأول الذي أطاح بالرئيس روش مارك كريستيان كابوري بقيادة اللفتنانت كولونيل بول هنري سانداوجو داميبا، بأن بوركينا فاسو "تواجه اليوم أزمة متعددة الأوجه: أمنية وإنسانية وسياسية واجتماعية واقتصادية".
وفي ظل الزعم بالعجز عن معالجة الأزمة الأمنية والتدهور المتزايد للأوضاع في بوركينا فاسو، وقع انقلاب آخر في 30 سبتمبر 2022 بقيادة إبراهيم تراوري، الذي كان مشاركًا في الانقلاب الأول في يناير 2022. وفي رسالته بمناسبة العام الجديد (2023) التي نشرها موقع بوركينا 24 الإخباري، تعهد تراوري، الذي يشغل حاليًا منصب الرئيس الانتقالي للبلاد، بـ "إعادة بناء الأمة" و"التحديث" الشامل لقمع التطرف العنيف ومحاربة الفساد و"إصلاح نظام الحكم بالكامل".
تحديات داخلية
تواجه بوركينا فاسو معضلات أمنية جمة، تزيد من حدتها القضايا الإقليمية الساحلية، ومشكلات داخلية اجتماعية واقتصادية، بالإضافة إلى سلسلة من المحاولات الانقلابية التي استهدفت حكومة تراوري العسكرية منذ توليها السلطة.
ويمكن إيجاز هذه التحديات وعواملها في النقاط التالية:
سقوط بليز كومباوري وتفاقم الأزمة الأمنية:
قبل عام 2014، كانت بوركينا فاسو، شأنها شأن العديد من دول غرب إفريقيا، تعاني من أزمة أمنية محدودة النطاق والنفوذ. وغالبًا ما كانت هذه الأزمة الأمنية مرتبطة بخلافات بين بعض الجماعات العرقية حول الأراضي، ورعي الماشية، أو أعمال العنف التي يرتكبها بعض قطاع الطرق والمجرمين الآخرين. وقد انخرط الرئيس البوركينابي بليز كومباوري في جهود المحادثات والوساطة في أزمة مالي بين عامي 2012 و2013،
في محاولة منه لتفادي انتشار التمرد المسلح إلى بوركينا فاسو، وحماية سيادة دولته ووحدة أراضيها. وقد أثمرت هذه الإستراتيجية عن تحقيق هدف كومباوري ومنحته مكانة مرموقة بين مجتمعات الطوارق في مالي، وبعض الجماعات المتطرفة المسلحة، بما في ذلك حركة أنصار الدين التي قادها إياد أغ غالي.
غير أن هذه الإستراتيجية التي تبناها كومباوري لم تكن مستدامة على المدى الطويل، على الرغم من نجاحها الظاهري، حيث أن اتصالاته مع الحركات المتمردة والمتطرفة المسلحة التي تقاتل في مالي أثرت سلبًا على أمن منطقة الساحل ككل. وقد تجلى ذلك بوضوح بعد 30 أكتوبر 2014، عندما أطيح بـ "كومباوري" بعد ثلاثة أيام من الاحتجاجات العنيفة المنددة بإعلانه، بعد 27 عامًا في السلطة كرئيس لبوركينا فاسو، عن مشروع إصلاح دستوري يمنحه 15 عامًا إضافية في منصب الرئيس. وهكذا، فتح الفراغ السياسي الذي نشأ بعد سقوطه الأبواب أمام انتشار أيديولوجية التطرف العنيف وأنشطة الجماعات المسلحة من مالي والنيجر المجاورتين.
استغلال أزمة الرعاة – المزارعين والأنشطة الإجرامية الأخرى:
لم تكن الصدامات بين الرعاة والمزارعين ظاهرة مستجدة في غرب إفريقيا، وخاصة في دول مثل نيجيريا ومالي وبوركينا فاسو، حيث يتهم المزارعون الرعاة بإتلاف محاصيلهم والتعدي على أراضيهم الخاصة لخصوبتها، مما يدفع الطرفين في كثير من الأحيان إلى حمل السلاح، وخاصة في ظل غياب سلطة الدولة والإدارة الأمنية على المستوى المحلي.
وتكشف تصريحات سكان المناطق النائية في بوركينا فاسو منذ عام 2014 أن عدم معالجة المشاكل المحلية، بما في ذلك شكاوى المزارعين الذين هم من السكان الأصليين والرعاة الذين ينتمون غالبًا إلى إثنية الفولاني وغيرهم من ضحايا الظلم والابتزاز من قبل قطاع الطرق، أو المظالم المتعلقة بعمال مناجم الذهب، وانتهاكات قوات الأمن الوطني، وهجمات الجماعات الإرهابية، كلها عوامل تشجع السكان على اللجوء إلى مجموعات الدفاع عن النفس أو حمل السلاح، مما يوسع نطاق العنف، خاصة وأن اشتراك بوركينا فاسو في حدودها مع مالي من الشمال والغرب، ومع النيجر من الشمال الشرقي، يسهل على الجماعات المتطرفة العنيفة استغلال التوترات القائمة وانعدام الثقة في الدولة لتجنيد مقاتلين جدد وتوسيع دائرة نفوذها عبر تفكيك التماسك الاجتماعي على المستوى المحلي.
التطرف العنيف والإرهاب:
يشهد الوضع الأمني في بوركينا فاسو تدهورًا مستمرًا منذ عام 2015، حيث بدأت أعمال العنف التي تمارسها الجماعات المتطرفة المسلحة تجتاح أقاليم الساحل والشرق والوسط الشمالي. وفي عام 2018، توسعت أنشطة هذه الجماعات نحو إقليمي الشمال وبوكلي دو موهون. وتتمحور الجماعات المتطرفة المسلحة (الإرهابية) النشطة في بوركينا فاسو في جماعتين تتعاونان مع جماعات إرهابية أخرى في مالي والنيجر، والعامل المشترك بينها جميعًا هو التنافس على السلطة الحكومية في مناطق نشاطها من خلال استهداف قوات الأمن وموظفي الخدمة المدنية والسلطات التقليدية وأفراد المجتمع المتهمين بالتعاون مع ممثلي الحكومة والأمن الوطني.
وهاتان الجماعتان هما:
- الأولى: جماعة أنصار الإسلام، وهي حركة محلية النشأة أسسها مالام إبراهيم ديكو المنتمي إلى إثنية الفولاني. ظهرت الحركة في أواخر عام 2016 وتنشط بشكل رئيسي في مقاطعة سوم الواقعة بإقليم الساحل، وفي إقليم الوسط الشمالي. وقد ازدهرت الحركة بفضل تجنيد شباب الفولاني الساخطين على ما يرونه إهمالًا من قبل الحكومة المركزية، وبالتعاون مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي هي عبارة عن تحالف لأربع حركات مسلحة في مالي، وهي: (أنصار الدين وجبهة تحرير ماسينا والمرابطون وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي).
وبالنظر إلى قرب وسط مالي من بوركينا فاسو؛ لعبت جبهة تحرير ماسينا التي أسسها الفلاني المالي أمادو كوفا، دورًا في زعزعة استقرار شمال بوركينا فاسو، وهناك تشابه كبير في خطاباتها وتوجهات جماعة أنصار الإسلام، إذ في محاولتهما لكسب الدعم الشعبي تهدفان إلى إعادة إحياء إمبراطورية ماسينا التاريخيّة التي تأسست أثناء كفاح الفولانيين في القرن التاسع عشر الميلادي في المناطق التي تعرف اليوم بـ "موبتي وسيغو في مالي".
- الثانية: تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (أو تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية الساحل)، وهو فرع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في منطقة الساحل والذي تركزت أنشطته الأصلية في مالي والنيجر، ودخل بوركينا فاسو في أواخر عام 2015، وينشط اليوم بشكل رئيسي في منطقة ليبتاكو-غورما الحدودية التي تجمع بين الدول الثلاث. وتتمثل إستراتيجية التنظيم في استغلال التوترات القائمة بين السكان المحليين لفرض سلطته في مناطق نفوذه.
جهودٌ في حل التحديات الأمنية
لقد أُطْلِقتْ منذ عام 2014 مبادرات متنوعة لمواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها بوركينا فاسو على المستويين المحلي والوطني، ولكن معظم هذه المبادرات لم تسهم إلا بدور محدود، بينما أدت الجهود الأخرى إلى تفاقم الأزمة.
على المستوى المحلي والوطني
ظهرت في عام 2014 ميليشيات ومجموعات مدنية للدفاع عن النفس، واشتهرت منها ثلاث مجموعات:
- المجموعة الأولى: هي كوغلويوغو التي تركزت في المقاطعات الشرقية والوسطى والشمالية، ولها فروع وأسماء مختلفة مع ارتباط بعضها بالسلطات التقليدية أثناء مكافحتها للجريمة وتوفير العدالة. ويتكون أعضاؤها من إثنية مُوسّي التي تشكل أكثر من 50 في المائة من سكان بوركينا فاسو.
- والمجموعة الثانية: هي دوزو التي تتكون من صيادين من إثنية دوغون، وتنشط بشكل رئيسي في غرب بوركينا فاسو وتقدم خدمات الأمن والحماية.
- أما المجموعة الثالثة: فهي روغا التي تهيمن عليها إثنية الفولاني وتتعامل مع قضايا سرقة الماشية والابتزاز التي تواجهها المجتمعات الرعوية. وقد ظهرت خصيصَى لمواجهة كوغلويوغو ودوزو المتهمتين باستهداف الفولاني نتيجة وصم الفولاني بالإرهابيين ومدّمرى المزارع. ومع ذلك، تصاعدت المواجهات بين مجموعات الدفاع عن النفس والميليشيات الثلاث إلى دائرة الانتقام والصراعات الدامية التي ساهمت في تزايد التدهور الأمني.
وفي أوائل عام 2020، أنشأت حكومة بوركينا فاسو ميليشيا "متطوعو الدفاع عن الوطن" شبه العسكرية لتكون بمثابة دعم لجهود الجيش الوطني والقوات العسكرية الأخرى في مساعيهم لمكافحة الجماعات المتطرفة والإرهابية. وأنشأت الحكومة أيضًا صندوق الدعم الوطني لتعزيز مشاركة المواطنين في الجهود الأمنية. وهذا الصندوق ممّول من قبل جهات مختلفة، بما في ذلك شركات التعدين.
على المستوى الإقليمي (الساحل)
لم تحقق القوة العسكرية المشتركة لمجموعة الساحل الخمس، التي تشكلت في عام 2017 وتضم بوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا وتشاد (ومالي قبل إعلان انسحابها منها)، أي نجاح يذكر في تحسين الوضع الأمني في المنطقة، كما أن التدخلات العسكرية الفرنسية، وخاصة "عملية برخان"، لم تسهم في تحسين الوضع، بل أدت إلى انتشار الأزمات الأمنية وزعزعة استقرار بوركينا فاسو بدلًا من تعزيزه، وهو ما عزّز الاستياء ضد فرنسا في المنطقة وأجبر الحكومات العسكرية في بوركينا فاسو (ومالي والنيجر اللتين شهدتا أيضًا انقلابات عسكرية في السنوات القليلة الماضية)، على طرد فرنسا وقواتها من البلاد.
ومع ذلك، فإن استمرار التحديات الأمنية وتفاقم الأوضاع في مناطق مختلفة من بوركينا فاسو يشير إلى أن قادة البلاد بحاجة ماسة إلى تبني استراتيجيات جديدة. ولعل هذا ما أدركه الكابتن إبراهيم تراوري الذي أكدّ على ضرورة إيجاد حل جذري للأزمة الأمنية و"التخلي عن الإجراءات الروتينية غير الضرورية" لتسريع معالجة المشاكل الكبيرة. وقد صرح تراوري في مقابلته مع التلفزيون الحكومي البوركينابي في سبتمبر 2023 بأن الانتخابات "ليست الأولوية، سأقول لكم ذلك بوضوح، إن الأمن هو الأولوية القصوى".
وقد أدى ما سبق إلى اتجاه تراوري نحو روسيا لسد الفجوة التي خلفتها فرنسا في بوركينا فاسو، بهدف تجهيز الجيش البوركينابي وحماية النظام. وانسحبت بوركينا فاسو، إلى جانب جارتيها النيجر ومالي، من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، وعززت تعاونها السياسي والعسكري مع الدولتين الجارتين، وشكلّت معهما في سبتمبر 2023 "تحالف دول الساحل" لمكافحة الإرهاب وتعزيز التعاون الاقتصادي وتوحيد الجهود في مواجهة ضغوط إيكواس التي تطالب بالامتثال للمواعيد النهائية للانتقال إلى الحكم المدني.
وفي الختام، تتداخل التحديات الأمنية في بوركينا فاسو بشكل معقد مع التطورات السياسية والاجتماعية في الدول المجاورة على وجه الخصوص، والأحداث في منطقة الساحل بشكل عام. وقد تفاقمت الأوضاع الأمنية نتيجة للصراعات الداخلية والمخاوف المتزايدة في المجتمعات الريفية والمناطق الحدودية، بما في ذلك تلك التي تربطها علاقات عرقية بالدول المجاورة. وعلى الرغم من المبادرات المتعددة، لا يزال الوضع الأمني غير مستقر، ويصاحبه انتشار الأنشطة المتطرفة في بعض المدن، وتوجيه الجيش لجزء من اهتمامه نحو القضايا السياسية المحلية والتنافسات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.
